فصل: (باب الآنية)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: الاشتباه في خروج الحدث]

وإن كان هناك خمسة رجال، فظهر من بينهم حدث لا يدرى ممن ظهر، ولا يتحقق كل واحد منهم ذلك من نفسه، فتقدم كل واحد منهم فصلى بالباقين صلاة.. فحكى القاضي أبو الطيب: أن ابن القاص قال: لا يجوز لأحدهم أن يأتم بواحد منهم؛ لأن المحدث منهم لا يصح الاجتهاد فيه لغيره؛ لأنه لا أمارة تدل عليه، بخلاف الآنية والثياب، فإن عليها أمارة يعرف بها الطاهر من النجس.
وقال ابن الحداد: يجوز لبعضهم أن يصلي خلف بعض؛ لأنه قد يغلب على ظنه من خرج منه الحدث بأمارة عنده من حال من يخرج منه بعادة يعرفها منه، وبسبب يقتضيه يدله عليه.
فعلى هذا: حكمهم حكم خمسة أوان، إذا كان فيها نجس وأربعة طواهر، فتصح صلاة الصبح والظهر والعصر في حق الجميع. وتصح المغرب في حق الجميع إلا في حق إمام العشاء. وتبطل العشاء في حق الجميع إلا في حق إمامها.
وإن خرج الحدث من بين رجلين.. لم يصح أن يأتم أحدهما بالآخر وإن خرج الحدث من بين ثلاثة أو أربعة.. فمقيسه على الخمسة. وبالله التوفيق.

.[باب الآنية]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويتوضأ في جلود الميتة، إذا دبغت) وهذا كما قال.
اختلف العلماء في جلود الميتة، هل تطهر بالدباغ؟ على ستة مذاهب.
فـالأول: ذهب الشافعي: إلى أن جلود الميتة كلها تطهر بالدباغ إلا جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، وبه قال علي، وابن مسعود. وهل يطهر جلد الآدمي بالدباغ؟
قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: لا يتأتى فيه الدباغ.
والثاني: قال أبو حنيفة: (تطهر جميع الجلود. وجلد الكلب، وفي جلد الخنزير ثلاث روايات:
إحداهن: يطهر، والثانية: لا يطهر، والثالثة: لا جلد له، وإنما ينبت شعره على لحمه).
و الثالث قال داود: (يطهر الجميع، وجلد الكلب والخنزير).
و الرابع قال أحمد: (لا يطهر شيء من الجلود).
و الخامس قال الأوزاعي، وأبو ثور: (يطهر جلد كل ما يؤكل لحمه، ولا يطهر جلد ما لا يؤكل لحمه).
و السادس قال مالك: (يطهر ظاهر الجلد بالدباغ، ولا يطهر باطنه، فتجوز الصلاة عليه، ولا تجوز الصلاة فيه، ويجوز الانتفاع به بعد الدباغ في الأشياء اليابسة دون الرطبة).
دليلنا: ما وري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بشاة ميتة ملقاة لميمونة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال: إنما حرم من الميتة أكلها».
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيما إهاب دبغ.. فقد طهر». وهذا عام في جميع الحيوان.
وأما جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما.. فمخصوص بالقياس، وهو أن الدباغ ليس بأقوى من الحياة، ثم الحياة لا تدفع النجاسة عن الكلب والخنزير، فالدباغ بذلك أولى.
قال صاحب "الفروع": ولا يطهر من الجلود إلا ما يندبغ ولا يتمزق عند الدباغ.

.[مسألة: ما يدبغ به]

قال الشافعي في "الأم" [1/8] (والدباغ بكل ما دبغت به العرب من قرظ، وشث، وما عمل عمله مما يمكث فيه الإهاب، حتى ينشف فضوله، ويطيبه، ويمنعه الفساد إذا أصابه الماء). وهذا كما قال. وأما (القرظ): فمعروف.
وأما الشث -بثلاث نقط -: فشجر مر الطعم، وروي: شب، وهو يشبه الزاج.
والأصل فيه ما روي: أن رجالًا من قريش كانوا يجزون شاة ميتة، كالحمار، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به»؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يطهره الماء، والقرظ» فنص على القرظ، وقسنا عليه ما عمل عمله مثل العفص، وقشور الرمان.
قال ابن الصباغ: وإن كان الرمان، يصلح الجلد.. جاز الدباغ به.
قال الصيمري: وإنما يحكم بطهارته إذا عمل فيه الدباغ ثلاثة أشياء: إذا نشف الفضول، وطيب الريح، وبقي على ذلك في حال ما لا يستعمل.

.[فرع: الدباغ بالشمس والتراب]

وإن دبغه بالتراب أو بالشمس، حتى استحجر.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول القاضي أبي الطيب وأبي حنيفة -: (أنه يحكم بطهارته؛ لأنه يجففه، ويطيب فضوله فهو كالقرظ).
والثاني - وهو المنصوص، واختيار الشيخ أبي حامد -: (أنه لا يطهر؛ لأنه لا يصلحه، فهو كما لو جفف في الهواء). قال الصيدلاني: قال الشيخ أبو إسحاق: ليس في ذلك خلاف بينهم بل أراد الشيخ أبو حامد: إذا كان التراب أو الشمس لا يزيلان فضول هذا الجلد. وأراد القاضي: إذا أزال فضوله، وعمل عمل القرظ.
قال ابن الصباغ: هذا يرفع الخلاف؛ لأنه لا يعمل عمل الدباغ.

.[فرع: الدباغ بالنجس]

فإن دبغ بماء نجس.. فهل يطهر الجلد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يطهر؛ لأن الطهارة لا تحصل بالنجس، كالطهارة عن الحدث.
والثاني: يطهر. ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنا لو قلنا: لا يطهر، لأدى إلى ألا يكون له سبيل إلى تطهيره؛ لأنه لا يمكن رده غير مدبوغ.
فإذا قلنا بهذا: افتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ وجهًا واحدًا.
وإن دبغه بشيء طاهر.. فهل يفتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ؟ فيه وجهان:
أحدهما: قال أبو إسحاق: لا يطهر، حتى يغسل؛ لأن ما يدبغ به.. ينجس بملاقاة الجلد، فإذا زالت نجاسة الجلد.. بقيت نجاسة ما دبغ به، فوجب أن يغسل ليطهر.
والثاني: لا يفتقر إلى غسله؛ لأن طهارته تتعلق بالاستحالة، وقد حصلت، فوجب أن يحكم بطهارته، كالخمر إذا استحالت خلا.
قال ابن الصباغ: والأول أقيس.

.[مسألة: الانتفاع بجلد الميتة]

ولا يجوز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ ولا بيعه.
وقال الزهري: يجوز الانتفاع به قبل الدباغ.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيعه قبل الدباغ).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3].
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به» فعلق الانتفاع به بالدباغ، فدل على أنه لا يجوز قبله.
وأما إذا دبغ الجلد.. جاز الانتفاع به في الأشياء الرطبة واليابسة، خلافًا لمالك في الأشياء الرطبة.
ودليلنا عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وهذا عام في البيع وغيره، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جلد الشاة الميتة: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به» وهذا عام في الانتفاع بالأشياء اليابسة والرطبة.
وهل يجوز بيعه؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (لا يجوز). وبه قال مالك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص الانتفاع، ولم يذكر البيع.
والثاني: قال في الجديد: (يجوز) وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأن البيع من جملة الانتفاع، ولأنه طاهر منتفع به ليس في بيعه إبطال حق فجاز بيعه، كجلد الشاة المذكاة.
فقولنا: (طاهر) احتراز منه قبل الدباغ.
وقولنا: (منتفع به) احتراز مما لا يؤكل من [نحو] الغراب، وما لا ينتفع به من الأعيان الطاهرة.
وقولنا: (ليس في بيعه إبطال حق) احتراز من أم الولد والوقف.

.[فرع: أكل جلد الميتة بعد الدبغ]

وأما أكله بعد الدباغ، فإن كان من حيوان مأكول.. ففيه قولان:
قال في الجديد: (يجوز؛ لأنه طاهر لا يخاف من أكله، فجاز أكله، كجلد الشاة المذكاة).
وقال في القديم: (لا يجوز). قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في شاة ميمونة: «إنما حرام من الميتة أكلها». مع أمره لهم بالدباغ والانتفاع، ولأن الدباغ لو أفاد الإباحة.. لم يصح فيما لا يؤكل لحمه، كما لا تصح الذكاة فيه، ولم يطهر بها جلده.
وإن كان من حيوان لا يؤكل لحمه، كالبغل، والحمار.. فإن الشيخ أبا حامد، والبغداديين من أصحابنا قالوا: لا يحل أكله قولًا واحدًا؛ لأن الدباغ ليس بأقوى من الذكاة، ثم الذكاة فيه لا تبيح أكل جلده فكذلك الدباغ.
وقال القفال، والقاضي أبو القاسم بن كج: هو على قولين، كجلد ما يؤكل لحمه؛ لأن الدباغ قد طهره، كما طهر جلد ما يؤكل لحمه، فكان مثله في جواز أكله بخلاف الذكاة؛ فإنها لا تؤثر في تطهيره فلم تؤثر في إباحته.

.[مسألة: الانتفاع بأجزاء الميتة]

روى المزني، والربيع بن سليمان المرادي، وحرملة والبويطي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الصوف، والشعر، والقرن، والعظم، والظلف، والظفر.. فيها روح، وتلحقها نجاسة الموت).
وأما شعر الآدمي: فإن قلنا: إن ابن آدم لا ينجس بالموت.. فشعره طاهر بكل حال.
وإن قلنا: إنه ينجس بالموت.. فعلى هذه الرواية: ينجس شعر ابن آدم بموته، وكذلك ما ينفصل من شعره في حياته.
وروى إبراهيم البلدي، عن المزني: أن الشافعي رجع عن تنجيس شعور بني آدم.
واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم: من لم يثبت هذه الرواية، وقال: ينجس الشعر بالموت قولًا واحدًا.
ومنهم: من أثبتها، وهو الصحيح. واختلفوا فيها:
فمنهم من قال: إنما رجع الشافعي عن تنجيس شعر بني آدم؛ لأنه ثبت عنده أن الشعر والصوف والوبر لا روح فيه، فيكون في الشعور قولان:
أحدهما: لا روح فيها، ولا تنجس بالموت، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، والثوري، والمزني، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا بأي بصوفها وشعرها إذا غسل بالماء»؛ ولأنه لو كان فيه روح.. لكان نجس بالقطع، كالأعضاء.
فعلى هذا: لا يوجد شعر نجس العين إلا شعر الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، وقد حكى فيه بعض أصحابنا الخراسانيين وجهًا آخر: أنه كسائر الشعور في الطهارة على هذا.
والقول الثاني: أن الشعور تحلها الروح، وتنجس بالموت. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح الذي به نفتي، وعليه نناظر، وبه قال عطاء، والحسن، والأوزاعي، والليث.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شاة ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به» فلو جاز الانتفاع بالشعر.. لبين، كما بين في الجلد؛ لأنه متصل بالحيوان اتصال خلقة، فينجس بالموت كالأعضاء.
فقولنا: (اتصال خلقة) احتراز من الحمل والبيض.
وأما الخبر الأول: فرواه يوسف بن السفر، وهو ضعيف.
وقولهم: إنه لا يحس.. يبطل بما غلظ من العقب؛ ولأن النعامة تبتلع الصنجة المحماة، ولا تحس بذلك. وفيها روح.
فعلى هذا: إذا دبغ جلد الميتة، وعليه شعر، ولم ينفصل الشعر عنه.. فهل يحكم بطهارته؟ فيه قولان:
أحدهما: قاله في "الأم" [1/8] (لا يطهر؛ لأن الدباغ لا يؤثر فيه، فلم يؤثر في تطهيره).
والثاني - رواه الربيع بن سليمان الجيزي عنه -: (أنه يطهر؛ لأنه شعر نابت على جلد طاهر، فكان طاهرًا؛ كشعر الحيوان الطاهر في حال الحياة، أو بعد الذكاة).
ومن أصحابنا من جعل رجوع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تنجيس شعر بني آدم رجوعًا عن تنجيس شعر بني آدم لا غير، فقال: ينجس شعر غير بني آدم بالموت قولًا واحدًا، وفي شعر الآدمي، قولان:
أحدهما: ينجس بموته، كما ينجس شعر غيره بموته.
فعلى هذا: ينجس منه ما انفصل عنه في حياته أيضًا.
والثاني: لا ينجس؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
ومن تكريمه ألا ينجس شعره، ولهذا أحل لبن ابن آدم، وإن كان غير مأكول اللحم.
فعلى هذا: يحكم بطهارته بعد موته، وبطهارة ما انفصل من شعره في حياته.
وأما شعر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإن قلنا: إن شعر غيره من بني آدم طاهر.. فشعره أولى بالطهارة، وإن قلنا: إن شعر غيره من بني آدم نجس.. ففي شعره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجهان:
أحدهما: وهو اختيار صاحب "الفروع" -: أنه ليس بنجس؛ (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق شعره بـ: منى.. ناوله أبا طلحة، ففرقه على الصحابة). فلو كان نجسًا.. لم يفرقه عليهم.
والثاني: أنه نجس!! وهو اختيار المحاملي؛ لأنه شعر آدمي، فكان نجسًا، كشعر غيره من الآدميين.
وأما بول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وغائطه، ودمه: فالبغداديون من أصحابنا قالوا: هو نجس وجهًا واحدًا، والخراسانيون قالوا: هو على وجهين كشعره لـ: (أن أبا طيبة شرب دم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). و (حسا ابن الزبير دمه تبركًا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)، ولم ينكر عليه.
و (شربت أم أيمن بوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوجع كان في بطنها فبرئت).
فإذا قلنا: إن شعر ابن آدم نجس.. فإنه يعفى عن قليله؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، فهو كدم البراغيث. قال ابن الصباغ: من أصحابنا من فسر ذلك بالشعرة والشعرتين في الماء والثوب.

.[فرع: الشعر المنفصل]

إذا قلنا: إن الشعر تحله الروح، وتلحقه نجاسة الموت، فإن جز الشعر من الحيوان في حال الحياة، فإن كان من حيوان غير مأكول.. نجس الشعر بالانفصال؛ لأن الجز للشعر كالذبح للحيوان، وما لا يؤكل لحمه ينجس بذبحه فكذلك شعره. وإن كان الحيوان مأكولًا.. لم ينجس الشعر بالجز، كما لا ينجس الحيوان نفسه بالذبح.
وإن نتف الشعر منه، فهل ينجس بذلك؟ فيه وجهان. حكاهما الشاشي. الصحيح: أنه لا ينجس.

.[فرع: القرن والعظم]

وأما العظم، والقرن، والظلف، والسن، والظفر.. فاختلف أصحابنا فيه:
فذهب أبو إسحاق: إلى أنه كالشعر والصوف والوبر، على ما ذكرناه؛ لأنه لا يحس ولا يألم، كالشعر.
وقال أكثر أصحابنا: تحلها الروح، وينجس بالموت قولًا واحدًا؛ وهو الصحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78 - 79].
و (الإحياء): لا يكون إلا لما كان فيه الروح، ثم فارقه؛ ولأن العظم يحس، وأطراف الأسنان يلحقها الضرس.
إذا ثبت هذا: فسئل فقيه العرب: أيتوضأ من إناء معوج؟
فقال: إن كان الماء يصيب تعويجه.. لم يجز، وإن كان لا يصيب تعويجه.. جاز.
و (الإناء المعوج): هو الإناء الذي جعل فيه العاج، وهو عظم الفيل.
وعظم الفيل نجس.. لا يجوز بيعه، ولا استعماله في الأشياء الرطبة، ويكره استعماله في الأشياء الجامدة، مثل الامتشاط بمشط العاج من غير رطوبة.

.[مسألة: اللبن في ضرع الميتة]

وإن ماتت شاة، وفي ضرعها لبن.. نجس اللبن بموتها، وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا ينجس) وبه قال داود.
دليلنا: أنه مائع غير الماء في وعاء نجس، فكان نجسًا، كما لو حلبت في وعاء نجس.
وإن ماتت دجاجة، وفي جوفها بيضة، فإن لم يتصلب قشرها، فهي نجسة، كاللبن، وإن كان قد تصلب قشرها، نجس ظاهر القشر، فإذا غسلت.. طهرت، وحل أكلها. وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا يحل أكلها).
دليلنا: أن البيضة مودعة في الحيوان، فلم تنجس بموت الحيوان، كالحمل إذا خرج حيًا.

.[مسألة: حكم أجزاء الحيوان بالذكاة]

وإن ذبح حيوان يؤكل لحمه.. لم ينجس بالذبح شيء من أعضائه، وجاز الانتفاع بلحمه، وعظمه، وشعره، وعصبه، ما لم يكن عليه نجاسة، فإن رأى شعر حيوان مأكول اللحم، وعظمه، ولم يعلم أنه أخذ منه في حال حياته، أو بعد ذكاته، أو بعد موته.. قال في "الفروع": حكم بطهارته؛ لأن الأصل فيه الطهارة.
وإن ذبح حيوان لا يؤكل لحمه.. نجس بذبحه، كما ينجس بموته.
وقال أبو حنيفة: (يطهر جلده بذكاته، وأما لحمه: فلا يباح). واختلف أصحابه في طهارته.
دليلنا: أنها ذكاة لا تبيح أكل اللحم، فلا يطهر بها الجلد، كذكاة المجوسي.

.[مسألة: أواني الذهب والفضة]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في [" الأم 1/8"] (ولا أكره في الأواني إلا الذهب والفضة).
وجملة ذلك: أن الأواني على ضربين: متخذة من جنس الأثمان، ومتخذة من غير جنس الأثمان.
فأما المتخذة من جنس الأثمان: وهي آنية الذهب والفضة.. فيكره استعمالها للرجال والنساء في الشراب والأكل والبخور والوضوء، وغير ذلك من وجوه الاستعمال وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال داود، وأهل الظاهر: (لا يكره غير الشرب وحده).
دليلنا: ما وري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن استعمال أواني الذهب والفضة». ولم يفرق بين الشرب وغيره.
إذا ثبت هذا: فهل هو كراهة تنزيه، أو تحريم؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يكره كراهة تنزيه لا تحريم؛ لأنه إنما نهى عن ذلك، لما يلحق من ذلك من السرف والخيلاء وإغاظة الفقراء، وهذا لا يوجب التحريم).
والثاني: قال في الجديد: (يكره كراهة تحريم)، وهو الصحيح؛ لما روت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذي يشرب في آنية الفضة.. إنما يجرجر في جوفه نار جهنم». وهذا وعيد يقتضي التحريم.
و (الجرجرة): حكاية الصوت، يقال: جرجر فلان الماء في حلقه: إذا جرعه جرعًا متتابعًا يسمع له صوت، وجرجر الفحل في هديره: إذا ردده في شقشقته، قال الشاعر:
وهو إذا جرجر بعد الهب ** جرجر من حنجرة كالخب.

وهامة كالمجل المنكب.
قال أصحابنا الخراسانيون: وهل يحرم استعمال آنية الذهب والفضة للزينة والفخر، أو لعين الذهب والفضة؟ فيه قولان.
وفائدة ذلك: لو اتخذ إناء من ذهب أو فضة، وغشاه رصاصًا، فإن قلنا: حرم لأجل الزينة والفخر.. جاز، وإن قلنا: حرم لأجل الذهب والفضة.. لم يجز.
وإن اتخذ إناء من رصاص أو نحاس وموهه بذهب أو فضة فإن قلنا: حرم لأجل الزينة والفخر.. لم يجز استعماله وإن قلنا: حرم لعين الذهب والفضة جاز هاهنا.
فإن أكل من آنية الذهب والفضة، أو شرب منها، أو توضأ.. لم يحرم المأكول والمشروب، وصح وضوؤه؛ لأن المنع لمعنى يعود إلى الإناء لا إلى ما في الإناء، فهو كما لو توضأ بماء مغصوب، أو صلى في دار مغصوبة، بخلاف ما لو توضأ بماء نجس، أو صلى في ثوب نجس.. فإن ذلك لا يصح؛ لأن النهي يرجع إلى معنى في الماء والثوب.
فإن قلنا: لا يحرم استعمال أواني الذهب والفضة.. جاز اتخاذها. وإن قلنا: يحرم استعمالها.. فهل يجوز اتخاذها؟
من أصحابنا من قال: فيه وجهان.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجوز؛ لأن فيه إحراز المال، ولأن الشرع إنما ورد بتحريم الاستعمال دون الاتخاذ.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه، كالملاهي.
قال المحاملي: ولأنه لا خلاف - على مذهبنا - أن الزكاة تجب فيها، فلو كان اتخاذها مباحًا.. لسقطت عنها في أحد القولين، كالحلي المباح.
فإذا قلنا: يجوز اتخاذها.. جاز الاستئجار على عملها. وإن كسر على غيره إناء من ذهب أو فضة.. وجب عليه ما نقصت قيمته بالكسر.
وإن قلنا: لا يجوز اتخاذها.. لم تصح الإجارة على عملها، وإن كسر على غيره إناء منها.. لم يجب عليه ضمان ما نقص بالكسر.
وأما الآنية المتخذة من غير الأثمان: فضربان: نفيس، وغير نفيس.
فأما النفيس: فما اتخذ من البلور والفيروزج، فإن قلنا: لا يحرم استعمال آنية الذهب وآنية الفضة.. فهذه أولى.
وإن قلنا: يحرم استعمال آنية الذهب والفضة.. ففي هذه قولان:
الأول روى حرملة: (أنه لا يجوز؛ لأن فيه سرفًا، فأشبه آنية الذهب والفضة).
والثاني روى الربيع، والمزني: (أنه يجوز؛ لأن السرف فيها غير ظاهر؛ لأنه لا يعرفها إلا خواص الناس، فلا يؤدي استعمالها إلى افتتان الناس، بخلاف آنية الذهب والفضة).
وأما الأواني المتخذة من العود الطيب المرتفع، والكافور، والمصاعد، والعنبر.. فهل يجوز استعمالها؟
قال الشاشي: فيه قولان، كالبلور، والفيروزج.
فإذا قلنا: يجوز استعمال هذه الآنية.. جاز اتخاذها، وإن قلنا: لا يجوز استعمالها.. فهل يجوز اتخاذها؟ فيه وجهان، بناء على ما ذكرناه في آنية الذهب والفضة.
أما الآنية المتخذة مما ليس بنفيس: فإن كانت صنعتها نفيسة، كالآنية المخروطة من الزجاج، وأواني الصفر المنقوش.. فهل يجوز استعمالها؟
أومأ صاحب "الفروع" فيها إلى وجهين، الصحيح: أنه يجوز.
وإن كانت صنعتها غير نفيسة، أو كان ذلك من المدر، أو ما أشبهه.. جاز استعمالها واتخاذها؛ لأنه لا سرف في ذلك.